تمهيـد: في البعد الإشكالي لعلاقة الفلسفة بالمؤسسة: تساؤلات وعناصر منهجية أولية.
يطرح
التفكير في إشكالية علاقة الفلسفة بالمؤسسة بشكل عام، وفي مجتمعنا خاصة،
تركيبة معقدة وهامة من التساؤلات والأسئلة والقضايا والمشكلات النظرية
والمنهجية…التي تتعدد بتعدد مستوياتها ودلالتها وأبعادها الفكرية
والاجتماعية والسياسية والتربوية… ذلك أننا لا نتحدث عن مفهومي: الفلسفة (Philosophie) والمؤسسة (Institution) في شروط مجتمعاتنا الثالثية - قياسا إلى شروط المجتمعات الغربية التي "تشكل" الإطار
المرجعي تبلور وتطور المفهومين الآنفين - إلا بالكثير من التعميمية
والتجاوز. هذا فضلا عن كون العلاقة الملتبسة للفلسفة بالمؤسسة، التربوية
تحديدا، تظل، على المستوى الكوني، مرتبطة بما افرزه التاريخ العميق لهذه
العلاقة من صراعات أو مفارقات أو غموض، ومن المكونات، أو في آليات الأشغال
وإنتاج أنماط متعددة من القول/الخطاب (Discours)، ومن المواقف والرؤى والتصورات وتمثلات الواقع، ومن أشكال التوجيه للفكر والممارسة في آن.
وإذا
كانت طبيعة هذه العلاقة: فلسفة/مؤسسة مسألة يتداخل فيها الخصوصي والكوني،
وأنها لا يمكن أن تفهم بالعمق الكافي إلا بالمعرفة الدقيقة لمجمل الشروط
التي تنتظم الجدل التفاعلي للعنصرين الآنفين في فضاء اجتماعي محدد في
الزمان والمكان، فإن خصوصية المجتمع المعاصر، مجتمع المأسسة والعقلانية
والتنظيم المعتمد على الكثير من الآليات المستحدثة للتخطيط والتدبير
والترشيد والهيكلة والتوجيه، مما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "هندسة اجتماعية" (Ingénierie sociale)،
بالمفهوم السوسيولوجي العام، فإن خصوصية هذا المجتمع قد أصبحت تتطلب، أكثر
من أي وقت مضى، ضرورة توفير شروط معرفية واجتماعية جديدة لإعادة التفكير
في مسألة تدبير علاقة الفلسفة بالمؤسسة التربوية. وذلك على اعتبار أن هذه
المؤسسة هي، في التحليل النهائي، جزء من كل، منظومة فرعية ضمن منظومة أشمل
هي المجتمع: مؤسسة المؤسسات ونسق الأنساق، في بنيته الكلية، ومشروعه
التربوي والاجتماعي العام. وإذا كان كل مشروع تربوي أو مجتمعي لا يمكن
تصور استقامته وتكامل عناصره ومكوناته إلا في إطار فلسفة تربوية أو
اجتماعية مؤطرة للنظر والفعل، فإن مهمة تدبير العلاقة السالفة الذكر تصبح
متسمة بالكثير من الصعوبة والتعقيد والاستشكال: كيف يمكن تجاوز المفارقة
التي تطرحها مسألة تحديد العلاقة بين الفلسفة وبين ما يفترض أن تشكل هذه
الفلسفة إطاره الفكري الموجه:
المؤسسة التربوية والمجتمع بشكل عام؟ بأي معنى، وضمن أي حدود يمكن قبول
الاعتراف بالإكراهات والضغوط التي تحكم المؤسسة، بشبكاتها العلائقية بين
فاعليها، وبأهدافها وغاياتها، وبمعاييرها المعتمدة في التحرك والاشتغال
نحو تحقيق مهامها وأهدافها، وأيضا بهوامش استقلاليتها النسبية المفترضة،
وبشتى أشكال ارتباطاتها بآليات توزيع السلطة والمعرفة والنفوذ المراتبي
والهيمنة المادية والرمزية في المجتمع… كيف يمكن قبول هذا الاعتراف
والدعوة في الآن ذاته إما إلى تحرير الفلسفة من ضغوط المؤسسة، وإما إلى
تنصيب الفلسفة موجها ومرشدا للمؤسسة ودعامة - بفعل هذه الوظيفة الإرشادية
- لتحرير المؤسسة في نهاية المطاف؟ كيف يمكن تحليل وفهم هذا التجادل
الدينامي بين الطرفين: الفلسفة والمؤسسة؟ وبأي معنى يمكن أن يكون كل منهما
موجِّها ومحرِّرا، وموجَّها ومحرَّرا في نفس الوقت؟ ما هي أهم الشروط
النظرية والمنهجية من جهة، ثم المعرفية والسوسيوتاريخية من جهة أخر، والتي
بإمكانها أن تشكل المستند العلمي الضروري للفهم والتحليل والمقاربة،
وبالتالي للاقتراب من طبيعة وخصوصيات العلاقة الآنفة، في كل تشابكها
والتباساتها وتعقد عناصرها..؟(1)
إن التساؤلات والأسئلة الآنفة - والتي يمكن الاستمرار في توليد العديد من
مثيلاتها إلى مستوى يصعب معه التحديد والحصر - تبرز لنا واقعة منهجية هامة
ألا وهي أن علاقة الفلسفة بالمؤسسة، التربوية، بل والاجتماعية بشكل عام،
ونظرا لطبيعتها المعقدة هذه، فإنها تتحطم أمامها مختلف أنماط التمظهرات
البديهية البسيطة التي تتجلى بها هذه العلاقة في صورها الأكثر ملموسة
ومباشرة، من جهة. كما أنها من، جهة أخرى، تشرع الأبواب أمام العديد من
الرؤى، والمنظورات التخصصية، والنظريات، والمناهج، ونماذج التدخل والتحليل
والمقاربة والفهم… والتي يظل كل منها - كما هو معروف ومتداول في الحقل
الفلسفي العام، وفي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية - محكوما بإطار
نظري ومنهجي موجه للمقاربة، ومرتهنا، على مستوى خلاصات ومترتبات هذه
المقاربة، بذات الإطار المرجعي، بإمكاناته، وحدوده، بل ومحدوديته أيضا(2).
نؤكد على هذه الواقعة المنهجية لنعلن في مقدمة هذه المساهمة عن تموقعنا في
إطار منظور تخصصي محدد هو المنظور السوسيولوجي بالذات غير أننا نود أن
نؤكد أيضا على عدم ادعاء أي إلمام شمولي بالمسألة المبحوثة هنا وفق هذا
المنظور، ولا الدعوة أيضا إلى تبني أية نزعة سوسيولجية (Sociologisme)
معرفة في التبسيطية والسذاجة، ومتناقضة مع تعدد أبعاد ودلالات المسألة
المعنية. غير أننا نعتقد أن المقاربة السوسيولجية النقدية المنفتحة،
الواعية بمنطلقاتها ورهاناتها، وبتموضعها في تحليل الظاهرة الاجتماعية في
نقطة تقاطع العديد من التخصصات وزوايا النظر، كفيلة بأن تقدم، ضمن حدود
نظرية منهجية معينة، منطلقا أساسيا لمعالجة الإشكالية لمطروحة. علاقة
الفلسفة بالمؤسسة. علما بأننا لا نطمح هنا إلى أكثر من المساهمة في وضع
أرضية للبحث والتساؤل والحوار، تكاملية، متعددة الأبعاد، ومنفتحة على ما
تتطلبه تلك المعالجة من تعدد وتكامل في المنظورات والمناهج وأنماط
المقاربة والفهم. وسنحاول إبراز بعض جوانب هذه الأرضية في المحاور الآتية
من هذا العرض(3).
المبحث الأول:حول بعض الجذور الفكرية والسوسيوتاريخية لإشكالية علاقة
يتبع......
يطرح
التفكير في إشكالية علاقة الفلسفة بالمؤسسة بشكل عام، وفي مجتمعنا خاصة،
تركيبة معقدة وهامة من التساؤلات والأسئلة والقضايا والمشكلات النظرية
والمنهجية…التي تتعدد بتعدد مستوياتها ودلالتها وأبعادها الفكرية
والاجتماعية والسياسية والتربوية… ذلك أننا لا نتحدث عن مفهومي: الفلسفة (Philosophie) والمؤسسة (Institution) في شروط مجتمعاتنا الثالثية - قياسا إلى شروط المجتمعات الغربية التي "تشكل" الإطار
المرجعي تبلور وتطور المفهومين الآنفين - إلا بالكثير من التعميمية
والتجاوز. هذا فضلا عن كون العلاقة الملتبسة للفلسفة بالمؤسسة، التربوية
تحديدا، تظل، على المستوى الكوني، مرتبطة بما افرزه التاريخ العميق لهذه
العلاقة من صراعات أو مفارقات أو غموض، ومن المكونات، أو في آليات الأشغال
وإنتاج أنماط متعددة من القول/الخطاب (Discours)، ومن المواقف والرؤى والتصورات وتمثلات الواقع، ومن أشكال التوجيه للفكر والممارسة في آن.
وإذا
كانت طبيعة هذه العلاقة: فلسفة/مؤسسة مسألة يتداخل فيها الخصوصي والكوني،
وأنها لا يمكن أن تفهم بالعمق الكافي إلا بالمعرفة الدقيقة لمجمل الشروط
التي تنتظم الجدل التفاعلي للعنصرين الآنفين في فضاء اجتماعي محدد في
الزمان والمكان، فإن خصوصية المجتمع المعاصر، مجتمع المأسسة والعقلانية
والتنظيم المعتمد على الكثير من الآليات المستحدثة للتخطيط والتدبير
والترشيد والهيكلة والتوجيه، مما يمكن أن نطلق عليه مصطلح "هندسة اجتماعية" (Ingénierie sociale)،
بالمفهوم السوسيولوجي العام، فإن خصوصية هذا المجتمع قد أصبحت تتطلب، أكثر
من أي وقت مضى، ضرورة توفير شروط معرفية واجتماعية جديدة لإعادة التفكير
في مسألة تدبير علاقة الفلسفة بالمؤسسة التربوية. وذلك على اعتبار أن هذه
المؤسسة هي، في التحليل النهائي، جزء من كل، منظومة فرعية ضمن منظومة أشمل
هي المجتمع: مؤسسة المؤسسات ونسق الأنساق، في بنيته الكلية، ومشروعه
التربوي والاجتماعي العام. وإذا كان كل مشروع تربوي أو مجتمعي لا يمكن
تصور استقامته وتكامل عناصره ومكوناته إلا في إطار فلسفة تربوية أو
اجتماعية مؤطرة للنظر والفعل، فإن مهمة تدبير العلاقة السالفة الذكر تصبح
متسمة بالكثير من الصعوبة والتعقيد والاستشكال: كيف يمكن تجاوز المفارقة
التي تطرحها مسألة تحديد العلاقة بين الفلسفة وبين ما يفترض أن تشكل هذه
الفلسفة إطاره الفكري الموجه:
المؤسسة التربوية والمجتمع بشكل عام؟ بأي معنى، وضمن أي حدود يمكن قبول
الاعتراف بالإكراهات والضغوط التي تحكم المؤسسة، بشبكاتها العلائقية بين
فاعليها، وبأهدافها وغاياتها، وبمعاييرها المعتمدة في التحرك والاشتغال
نحو تحقيق مهامها وأهدافها، وأيضا بهوامش استقلاليتها النسبية المفترضة،
وبشتى أشكال ارتباطاتها بآليات توزيع السلطة والمعرفة والنفوذ المراتبي
والهيمنة المادية والرمزية في المجتمع… كيف يمكن قبول هذا الاعتراف
والدعوة في الآن ذاته إما إلى تحرير الفلسفة من ضغوط المؤسسة، وإما إلى
تنصيب الفلسفة موجها ومرشدا للمؤسسة ودعامة - بفعل هذه الوظيفة الإرشادية
- لتحرير المؤسسة في نهاية المطاف؟ كيف يمكن تحليل وفهم هذا التجادل
الدينامي بين الطرفين: الفلسفة والمؤسسة؟ وبأي معنى يمكن أن يكون كل منهما
موجِّها ومحرِّرا، وموجَّها ومحرَّرا في نفس الوقت؟ ما هي أهم الشروط
النظرية والمنهجية من جهة، ثم المعرفية والسوسيوتاريخية من جهة أخر، والتي
بإمكانها أن تشكل المستند العلمي الضروري للفهم والتحليل والمقاربة،
وبالتالي للاقتراب من طبيعة وخصوصيات العلاقة الآنفة، في كل تشابكها
والتباساتها وتعقد عناصرها..؟(1)
إن التساؤلات والأسئلة الآنفة - والتي يمكن الاستمرار في توليد العديد من
مثيلاتها إلى مستوى يصعب معه التحديد والحصر - تبرز لنا واقعة منهجية هامة
ألا وهي أن علاقة الفلسفة بالمؤسسة، التربوية، بل والاجتماعية بشكل عام،
ونظرا لطبيعتها المعقدة هذه، فإنها تتحطم أمامها مختلف أنماط التمظهرات
البديهية البسيطة التي تتجلى بها هذه العلاقة في صورها الأكثر ملموسة
ومباشرة، من جهة. كما أنها من، جهة أخرى، تشرع الأبواب أمام العديد من
الرؤى، والمنظورات التخصصية، والنظريات، والمناهج، ونماذج التدخل والتحليل
والمقاربة والفهم… والتي يظل كل منها - كما هو معروف ومتداول في الحقل
الفلسفي العام، وفي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية - محكوما بإطار
نظري ومنهجي موجه للمقاربة، ومرتهنا، على مستوى خلاصات ومترتبات هذه
المقاربة، بذات الإطار المرجعي، بإمكاناته، وحدوده، بل ومحدوديته أيضا(2).
نؤكد على هذه الواقعة المنهجية لنعلن في مقدمة هذه المساهمة عن تموقعنا في
إطار منظور تخصصي محدد هو المنظور السوسيولوجي بالذات غير أننا نود أن
نؤكد أيضا على عدم ادعاء أي إلمام شمولي بالمسألة المبحوثة هنا وفق هذا
المنظور، ولا الدعوة أيضا إلى تبني أية نزعة سوسيولجية (Sociologisme)
معرفة في التبسيطية والسذاجة، ومتناقضة مع تعدد أبعاد ودلالات المسألة
المعنية. غير أننا نعتقد أن المقاربة السوسيولجية النقدية المنفتحة،
الواعية بمنطلقاتها ورهاناتها، وبتموضعها في تحليل الظاهرة الاجتماعية في
نقطة تقاطع العديد من التخصصات وزوايا النظر، كفيلة بأن تقدم، ضمن حدود
نظرية منهجية معينة، منطلقا أساسيا لمعالجة الإشكالية لمطروحة. علاقة
الفلسفة بالمؤسسة. علما بأننا لا نطمح هنا إلى أكثر من المساهمة في وضع
أرضية للبحث والتساؤل والحوار، تكاملية، متعددة الأبعاد، ومنفتحة على ما
تتطلبه تلك المعالجة من تعدد وتكامل في المنظورات والمناهج وأنماط
المقاربة والفهم. وسنحاول إبراز بعض جوانب هذه الأرضية في المحاور الآتية
من هذا العرض(3).
المبحث الأول:حول بعض الجذور الفكرية والسوسيوتاريخية لإشكالية علاقة
يتبع......